الجزء الرابع من الخريطة الذهنية للنبوة - شذرات نبوية

كتبه 

المستشار الدكتور 

صادق القماح 

سيتضح في هذا الجزء الخريطة الذهنية واضحة في حياة الرسول فكيف نفرق بين حياة محمد الإنسان ومحمد الرسول وكيف كان يفكر ويتصرف كإنسان وكيف يتصرف كنبي وكما ذكرت من قبل أنه سيسهل علينا اتباع منهج محمد الإنسان بسهولة لأنه بشر مثلنا أما محمد النبي فسنحاول جاهدين أن نتأسى به قدر استطاعتنا .

سنحلل الآن بعض المواقف التي تصرف فيها محمد كإنسان والبعض الآخر الذي تصرف فيها كنبي .

حين أعلن النبي صلوات الله وسلامه عليه النبوة وأن الوحي قد نزل عليه بدأت الألسنة في قريش تتقول عليه بل وتسفه من أقواله وأفعاله واختلفت ردود الأفعال وكيفية التصدي لما يدعوا إليه محمد واتفقوا فيما بينهم أن يعرضوا المال والجاه على محمد وكان رده على عمه حامل هذا العرض طالب : - " الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته "

لماذا رفض محمد هذا العرض ؟ ! .

 إذا عدنا لنشأة محمد كما ذكرنا في الجزء السابق بأن جده كان حريصاً على إنزاله منزلة ومكانة عالية بين أشراف القوم فهو اليوم لا يحتاجها لأنه ذاق طعمها من قبل كما أنه لم يكن في حاجة إلى المال لأن عنده ما يكفيه فهنا محمد النبي رفض الإغراءات الدنيوية التي عاشها محمد الإنسان .

أما من مواقفه الثابتة كأب قبل النبوة وهي هي لا تتغير بعد النبوة في زواج السيدة زينب رضي الله عنها وأرضاها حين ذهب أبو العاص بن الربيع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، وقال له :- " أريد أن أتزوج زينب ابنتك الكبرى " ، فقال له النبي :- " لا أفعل حتى أستأذنها " ، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على زينب ويقول لها :- " ابن خالتك جاءني وقد ذكر اسمك فهل ترضينه زوجاً لك " ؟ فاحمرّ وجهها وابتسمت .

ولما تم التفريق بينهما بعد النبوة إلى أن أسلم أبو العاص فذهب إلى رسول الله صل الله عليه

وقال أبو العاص بن الربيع : يا رسول الله هل تأذن لي أنْ أراجع زينب ؟ فأخذه النبي وقال :-  " تعال معي " .

ووقف على بيت زينب وطرق الباب وقال :- " يا زينب إنّ ابن خالتك جاء لي اليوم يستأذنني أنْ يراجعك فهل تقبلين " ؟ فأحمرّ وجهها وابتسمت.
ففي المرة الأولى التي تقدم فيها أبو العاص كان لمحمد الإنسان وتم التفريق بينهما عن طريق محمد النبي ولما عاد بعد إسلامه عاد لمحمد الأب الإنسان وفي جميع الأحوال كان أخذ المرأة في زواجها موجوداً عند محمد الإنسان والنبي .

و من المواقف التي نعرضها لمحمد النبي والتي لم يَغر فيها محمداً على نفسه كنبي وتبيان و مدى حلم الأنبياء عند الغضب على التطاول وذلك حين دخل عليه زيد بن سعنه وهو من علماء اليهود وكان الرسول قد استدان منه مبلغاً قليلاً ولم يحن وقت سداده ، واخترق زيد صفوف أصحابه حتى أتى النبي عليه السلام وجذبه من مجامع ثوبه وشده شدا عنيفا وقال له بغلظة : أوفي ما عليك من الدين يا محمد .. إنكم بني هاشم قوم تماطلون في أداء الديون . 
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهز سيفه وقال ائذن لي بضرب عنقه يا رسول الله فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه " مره بحسن الطلب ومرني بحسن الأداء " .

هكذا تكون أخلاق النبوة وأخلاق القرآن وتحقيق قول المولى عز وجل : - " ادفع بالتي هي أحسن " ، فقال اليهودي : والذي بعثك بالحق يا محمد ما جئت لأطلب منك دينا إنما جئت لأختبر أخلاقك .. فأنا أعلم أن موعد الدين لم يحن بعد ولكني قرأت جميع أوصافك في التوراة فرأيتها كلها متحققة فيك إلا صفة واحدة لم أجربها معك .. وهي أنك حليم عند الغضب .. وأن شدة الجهالة لاتزيدك إلا حلما ولقد رأيتها اليوم فيك ، فأشهد أن لاإله إلا الله وأنك محمد رسول الله وأما الدين الذي عندك فقد جعلته صدقة على فقراء المسلمين ، وبإكمال القصة تكتمل الآية الكريمة  " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم  "

أما الموقف الآتي فأرى فيه محمداً الإنسان ومحمداً النبي فهو عندما شارك في بناء المسجد

والصحابة ينشدون ويتغنون أما محمد الإنسان فقد ساعد في عملية البناء ولكن محمد النبي لا يستطيع الغناء ولا قرض الشعر لأنه لم يرد عنه هذا وإنما كان يدعوا للمهاجرين والأنصار وهذا فعلا النبوة .

فقد روي البخاري عن أنس قال : وجعلوا أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم _ ينقلون الصخر ( لبناء المسجد ) وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول : 
" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ...... فاغفر للأنصار والمهاجرة "
ومن أشهر مواقف محمد النبي اشتياقه لإخوانه فأثناء رجوعه من زيارة شهداء أحد بكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا :- ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال: - " اشتقت إلي إخواني " قالوا :- " أولسنا إخوانك يا رسول الله " ؟ قال :- " لا أنتم أصحابي ، أما إخواني فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ( .. .

وخير دليل  على شهادة الرسول بنفسه على إنسانيته وأنه يحكم كإنسان في الخصومات بين الناس ولا دخل للنبوة فيها هذه الروايات : -  

·       ورُوِي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: اختصَم رجلان إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم عالِمٌ بالخصومة وجاهل بها ، فقضى للعالِم ، فقال مَن قُضِي عليه :- " يا رسول الله ، والله الذي لا إله إلاَّ هو إنِّي مُحِقٌّ " ، فقال :- " إن شئتَ أعاوده " ، فعاودَه ، فقضى للعالِم ، فقال المَقْضِيُّ عليه مثل ما قال أوَّلاً ، ثم عادوه ثالثًا ، ثم قال - عليه الصلاة والسلام : - " مَن اقتطع حقَّ امرئ مسلم بيمينِه فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار " ، فقال العالِم المقضيُّ له : يا رسول الله ، إنَّ الحق حقُّه، فقال - عليه الصلاة والسلام : - " من اقتطع بخصومته وجدَلِه حقَّ غيره، فلْيَتبوَّأ مقعده في النار" .

·       حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها .

السنن الكبرى – الشهادات ، المستدرك على الصحيحين

· خْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السُّنِّيِّ ، أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، ثَنَا يَحْيَى ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ .

وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُعَاوِيَةَ ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَنَّامِ بْنِ حَفْصٍ ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، ثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، عن أُمِّ سَلَمَةَ , قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :-

" إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .

 رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُرْوَةَ - موضوعات المستدرك للذهبي

إن كانت بداية الحادثة دليل على أن محمد يحكم بإنسانيته البحتة إلا أن ختامها كان لمحمد النبي والرسول والذي ترك بعدها حديثاً شريفاً صحيحاً لتسير عليه البشرية .

حين نحلل المواقف سنصل بالأمر أن نرى محمداً في بعض مواقفه إنساناً والبعض نبياً لذا حين نسمع قول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها : - " كان خلقاً يمشي على الأرض " أو " كان خلقه القرآن "، وحين نسمع قول النبي صل الله عليه وسلم : - " إنما بُعثت لأتمم مكارم أخلاقكم وحين نقرأ قول المولى عز وجل : - " ولكم في رسول الله أسوة حسنة " .

فإذا مزجنا هذا كله وغيره في فكر واحد هل نستطيع أن نقول على بعض من يتأسى بالرسول ويطبق بعض ما استطاع من منهج النبوة و لولا تدخل الشيطان في كل أعمال ابن آدم ولولا التكليفات التي اختص بها الله نبيه دون سائر البشر لاستطعنا أن نقولها أنه بعض من القرآن يمشي على الأرض .

لذا حين تناولنا الخريطة الذهنية للرسول صل الله عليه وسلم كان الهدف منها إيضاح أن هناك منهجان ( إنساني و نبوي ) وأنه يسهل علينا اتباع الكثير من خطى الرسول صل الله عليه وسلم دون الحاجة إلى مرجعية ومعرفة الأحلية من المحرم فقط علينا التفكير والتحليل لمواقف محمد صلوات الله وسلامه عليه .

الخريطة الذهنية هي كل المؤثرات التي نتج عنها فكر محمد الإنسان ومحمد الرسول ، فإذا عرفنا أسباب تصرف أو قول ما عن الرسول لفهمنا المنهجية الصحيحة ولاتبعنا الناتج الصحيح

فليس غريباً أن نجد القاعدة وداعش و الإخوان والسلفية الوهابية والسلفية الجهادية وغيرهم من الجماعات التي تطرفت وجمحت في الفكر وتشددت فيه لأنها لم تدرس الخريطة الذهنية للرسول والمؤثرات التي نتج عنها فكره السوي فنتج لهم فكر مشوه قلب موازين الكلام ومفاهيم الدين السمح وجعلوه ديناً دموياً كارهاً بدلاً من دين حب ومودة وإيخاء وتسامح .

الخميس, مايو 25, 2017